قصة قصيرة

  الليل، يا أمّي، أسكنُه لكي لا يخون، وأحومُ حوله كجاريةٍ مدفوعةِ الأجر لكي لا يبعد الإيقاع عنّي، فيُرجعَني بقافيةٍ ضروريّةِ التكرار نحو بلادٍ لا تصدِّق أنّ لي أهلًا وظلًّا وبيتًا كثيرَ الشبابيك. منذ الأمس لم يهدأ البحر يا أمّي، ولم آكل. يقولون إنّ...
  في طريقه إلى محطّة القطار شاهد مركزًا عموميّا للإنترنت، فراودته فكرة. دخل سريعًا، وجلس أمام حاسوبٍ بعيدٍ عن بقيّة الموجودين. فتح محرّكَ البحث، وكتب الكلمات: "رؤية الميّت في المنام." ثمّ نقر على زرّ البحث. "يا إلهي، النتائج بالآلاف،" قال مستغربًا....
  لا تضع بيرتكَ هنا أرجوك. ابحثْ عن مكانٍ آخر؛ الحانة مازالت فارغة. *** منذ يومي الأوّل في عملي في هذه الحانة، وجدتُ هذا السيّدَ يحتلّ الزاويةَ اليمنى من الكونتوار. يشربُ البيرةَ واقفًا. لم يغيّر مكانَه الذي لا يقربه أحد، وكأنّ هذه الزاوية وُجدتْ له...
  لماذا أتذكّرها الآن؟ أهو الطّقس؟ أهي درّاجة تلك الفتاة الصّغيرة، تحمل شعرها القصير، ذلك الذي يقتبس مشهدًا لباريس ولرائحة الخبز الفرنسيّ؟ لا أتذكّر متى رأيتُها أوّلَ مرّة. حين انتقلتُ إلى حيّنا كان كلُّ أطفال الحيّ قد انتقلوا قبلي، فهل انتقلتْ...
  بالقربِ من سوق الخضار القديم، في قلب اللاذقيّة، تنبعث رائحةٌ غريبة. إنّه منتصفُ ظهيرة يومٍ من تسعينيّات قرنٍ بعيد. عشراتُ السرافيس (سيّارات الأجرة الكبيرة) تملأ الشوارعَ جيئةً وذهابًا، والناسُ عائدون من أعمالهم يمسحون العرقَ بمناديلهم أو أكمامِ...
  ينهمر المطرُ خيوطًا من دمع. هدّدتُه بأنّني سأغلقُ جميعَ المنافذ في قلبي، وسأسدُّ طريقَ الحنين إليه، وسأعتكفُ مع أوراق الخريف التي تتبلّل بحلول الشتاء.   ربعُ ساعةٍ من الأمطار الغزيرة كافٍ لتغرقَ شوارعُ المدينة وأقدامُ المارّة في برك المياه،...
  تعرّفتُ إلى "سماء" صبيحةَ يومٍ ربيعيّ أثناء بحثي عن مكتبةٍ لشراء ديوانٍ هديّةً لصديقي الذي دخل المشفى. كنتُ أعْبر أزقّة المدينة محاولًا أن أتذكّر أيَّ الشعراء أحبّ إلى قلبه، فأتحيّر بين بين درويش والسيّاب. لم أكن أحفظ من شعر الأخير سوى البيت الأول...
  أوغاريت وقفنا أمام أبواب مدينةٍ تحتاج إلى خمسِ تذاكر من فئة الـ15 ليرة سوريّة كي يدخلَها شخصٌ واحد؛ فهم لم يطبعوا تذاكرَ جديدةً تلائم انخفاضَ قيمة الليرة، في مدينةٍ كانت على بعد رميةِ حجرٍ من أوّل قالبٍ لصبّ عملات العالم القديم. دخلتُها وأنا...
حين استلمتُ الرسالة أحسست بغبطة كبيرة؛ فالرسائل الورقيّة أصواتٌ حقيقيّة معبّأة في مغلّفات ناعمة. شممتها بشغف، ثمّ فتحتها على مهل لئلّا تتمزّق. أخرجت بطاقةً مستطيلة زرقاء، ثمّ أمعنتُ في القراءة: دعوة إلى مسرحيّة فولكلوريّة في مسرح وسط المدينة، عند...
  أكبرُ الصغار يقرأ متضجّرًا، استعدادًا للفحص المدرسيّ القريب. وُسطى الصغار أمام التلفاز، تتابع مشدودةً أحداثَ الحلقة التسعين من مسلسلٍ ما زال في بداياته. أصغرُ الصغار متسمّرٌ أمام الحاسوب، ينتقل من موقعِ تواصلٍ اجتماعيّ إلى آخر غير اجتماعيّ، إلى...
  دخل سعيد المخبزة. لم يكن ينوي شراءَ خبز ـــ فهو يعلم جيّدًا أنّ جيبه خاوٍ؛ لكنّه دخل المخبزة كما يفعل الآخرون. ربّما فعل ذلك ليوهم نفسَه بأنّه من أصحاب المال، وبأنّه يمارس حياته كما يفعلون تمامًا. وضع السلّة أرضًا. في السلّة مطرقتُه، ومساميرُه،...
  من تحت شجرة الزيتون انبثقتْ، تكرج مسرعةً. لم تطِرْ عندما رفعتْ رأسها ورأتني.   لونها بنّيٌّ فاتح، وريشاتٌ قليلة بيضاء في الجناحين المطويّيْن لِصقَ بدنها. توقّفتْ والتفتتْ خلفها، فتنبَّهتْ إلى قطّة صغيرة تمطّ بدنها بمشيةٍ متربّصة. اندفعت الحمامة...
  بعد أحدَ عشرَ عامًا على استقلال سوريا، وقبل بضعةِ أشهرٍ من وحدتها مع مصر أواخرَ العام 1957، ولدتُ في شرقيِّ العاصمة دمشق. أُطلق عليَّ اسم "أستاد العباسيين الدوليّ،" تيمّنًا بالحقبة العباسيّة من التاريخ العربيّ الإسلاميّ. وعلى الرغم من أنّني لم...
  كانت الساعة تقارب العاشرة مساءً حين غادرت الشاحنة التي نقلتْ فَرشَ بيتنا إلى البيت الجديد. كانت أغراضنا موزّعةً في كلّ مكان، كمخلّفات إعصارٍ مرّ من هنا. لكنّ المشهد كان، بالنسبة إلينا، يدعو إلى التفاؤل؛ فها نحن نبدأ مرحلةً جديدةً في حياتنا. صحيح...
  لم أتزوّج لأنّني، ببساطةٍ، أحببتُ فتاةً قالت لي: "صوتُ كارم محمود هو أنا؛ إنِ قبضتَ عليه صرتُ لك." "شِيَم،" الفتاةُ الوحيدة الّتي أحببتُها، كانت ترى العالمَ موسيقى وأصواتًا. حاولتُ كثيرًا أن أشدّها إلى الواقع، وإلى لمس الأشياء على حقيقتها، لا إلى...