مذكّرات رجلين
03-02-2016

 

مذكّرة بتاريخ 12/3/1999

 

كان يومًا صعبًا. لا شيء يسير كما أحبُّ وأرغب. أفكاري تقودني إلى خلافاتٍ لا نهاية لها.

الجميع يقول لي: "لا تقل هذا. لا تفعل هذا. أنت مخطئ. أنت متعصّب ودوغمائيّ، متحجّر... بل تيس."

واليوم قال لي أحدهم: "رأسك يصلح لأن يكون مطرقة."

***

مذكّرة بتاريخ 20/3/1999

الأمور تزداد تعقيدًا. أحسّ بنفسي محاطةً بشرذمةٍ من المتكلّفين. حين أصارحهم بما أحسّ، يحدّقون فيّ وكأنّني فزّاعةُ حقلٍ مخيفة. أظنّني بتُّ شيئًا غيرَ مألوف في هذا العالم، مومياءَ متخلّفةً من زمن سحيق، جنسًا بشريًّا سيولد بعد ملايين من السنين الآتية.

شيءٌ كَلاشيء. أتشابه مع البعض، يفكّرون بما أفكّر فيه، يشعرون بما أشعر به... غير أنّهم يتلوّنون، حين يَفِدون على أرضٍ غريبةٍ، على أناسٍ لا يحملون أفكارَهم ولا يستطيبون مشاعرَهم. تتبدّل جلودُهم ويصبح ملمسُهم بملمس الأرض، وغالبًا ما تكون الأرضُ ملساءَ ناعمة. قلّما تخشَوشنُ جلودُهم. ربّما الخشونة ليست بالأرض المعمورة بالناس.

***

مذكّرة بتاريخ 5/5/1999

فكّرتُ اليوم جدّيًّا في كلام صديقٍ قديمٍ أثق بكلامه، وبحصافة عقله. ضحك حين رويتُ له حكاياتي التي لا تنتهي بسبب صراحتي، هذه "العاهة" كما سمّاها لاحقًا. كان أكثرَ ما أضحكه قصّتي مع تلك الفتاة التي التقيتُها مصادفةً،  فأعجبني جمالُها وكلامُها، فصارحتُها بالحقيقة من دون مقدّمات ومن غير انتظار مرحلة التعارف: "أحببتكِ، هل نستطيع الزواج؟" أخبرتُه كيف عبّرتْ عن صدمتها بضربةٍ على رأسي. لقد كان أمرًا مضحكًا، يستحقّ البكاء.

***

مذكّرة بتاريخ 6/5/1999

نسيتُ أن أذْكر نصيحة صديقي بالأمس. لقد نصحني بأن أعمل على إخفاء بعض مشاعري، وتورية بعض أفكاري. قال لي إنّي لو بقيتُ على هذه الحال فستنحصر علاقاتي الاجتماعيّة بأشخاصٍ محدودين، ولن أستطيع التأقلم مع فئات متنوّعةٍ وشرائح مختلفة من الآدميين. والحقّ أنّي وجدتُ في قوله الحقيقة؛ فأنا لا أستطيع التأقلم مع كلّ الفئات، وأحسّني غريبًا كلّ الغرابة.

***

مذكّرة بتاريخ 15/8/1999

الوضع يسير نحو الأفضل. بعد العمل بنصيحة صديقي تضاءلتْ خلافاتي مع محيطي، وأصبح وجودي أقلَّ تسعيرًا للخلافات. أفكاري وعقائدي الدينيّة باتت لا تؤذي أحدًا. توجّهاتي السياسيّة غابت عن صفحة أحاديثي، غير أنّ الحاذق يستطيع تلمّسها في الهوامش. حديثي؟ حديثي بات أقلّ. عندما تبغي كسبَ الجميع فعليك أن تحرص على ضبط كلّ كلمةٍ تَتفوّه بها. المسألة ليست بالسهولة التي كنت أتوقّعها، غير أنّ الأمر يستحقّ التجربة.

***

مذكّرة بتاريخ 29/8/1999

أحسّ باختناقٍ كبير. إلامَ أبقى على هذه الحال؟ حتّامَ أخنقُ أنفاسَ هذه المشاعر والأفكار المستعرة في الداخل؟ حتّامَ أمارسُ دورَ رجل المخابرات على مواطنٍ مسالم؟ رجل مخابرات يتربّص بنفسه، ونفسي المسكينة تلوذ بالصمت خوفًا من سياط كلام الناس اللاذعة.

الجحيم جنّة.

***

مذكّرة بتاريخ 2/8/1999

لم أجد حلًّا مناسبًا، لذلك أعدتُ استشارة صديقي. هذه المرة ضحك طوال الوقت، لكنّه أبدى أسفه حين رآني واجمَ الوجه حزينًا. أخبرني أنّ الكلام حاجةٌ ضروريّة، ولا غنى عنه لأيّ إنسان. وبعد أن أضجرني بأحاديثه الفلسفيّة والنفسيّة والاجتماعيّة عن أهميّة الكلام سألته "ما العمل؟" كان جوابه غريبًا ومثيرًا؛ نصحني بأن أعبّر عن مشاعرَ ومعتقداتٍ لا تلازمني أو تمثّلني حقيقةً، لكنْ... شرطَ أن أردّد في قلبي عشر مراتٍ أو أكثر: "لا".

***

مذكّرة بتاريخ 18/8/1999

حياتي الاجتماعيّة بدأتْ تتحسّن. الآن أمتلك الكثيرَ من الأصدقاء والرفاق. كان الأمرُ صعبًا في البداية، إلّا أنّه الآن أسهلُ بكثير. الأمر لا يكلّفني الكثير؛ فقط أقول "لا" صامتةً لا يسمعها أحد. اليوم قلتُها أكثرَ من ألف مرّة، وانتهى النهار بمتعة.

***

مذكّرة بتاريخ 22/9/1999

اليوم قرأتُ المذكّرة المؤرّخة بتاريخ (12/3/1999) وضحكتُ كثيرًا من نفسي.

 

لبنان

 

محمد مهدي عيسى

كاتب وطالب جامعيّ لبنانيّ.