نيروز
09-09-2019

 

أخذتُ فنجانَ القهوة بين أصابعي. بقيتُ أرقب خطوطَ البخار المتصاعدة على مهل، وأتأمّل الرغوةَ السابحة. رائحةٌ حميمةٌ تتشرّبُ نجومَ الليل المطلّةَ على شرفتي، وتتغلغل في وجداني. أشعلتُ سيجارةً، ورحتُ أترشّفُ قهوتي. القطرات الأخيرة العالقة بالفنجان لها طعمٌ مميّز. حاولتُ تقسيطَها حتّى لا تضيعَ نشوتي، ثمّ شرعتُ في فكّ الطلاسم المرسومة على السيراميك الأبيض.

الطريق ملتوية. الجبلُ إلى يميني، والبحرُ إلى يساري، وحبيبتي أصابعُها في يدي. هدوءُ المكان، ومشهدُ الشمس وهي تغيبُ، وعبقُ الشاطئ، وعذوبةُ النّسيم، ورؤيةُ بعض العاشقين في سيّاراتهم يتبادلون العشق: كلُّها أشياءُ أعجزتني عن مقاومة جاذبيّة حبيبتي. وجدتُني أضع ذراعي على كتفيْها. كنتُ أسمعُ صهيلَ الأمواج في دمي. اجتاحتني نسماتٌ باردة. أغلقتُ نافذةَ الشرفة. حملتُ الطبقَ إلى المطبخ، ثمّ دخلتُ غرفةَ نومي.

صرتُ أحبّ الاستماع إلى العندليب الأسمر، كلَّ ليلة، وهو يُنشد قارئة الفنجان. لهذه الأغنية تأثيرٌ خاصٌّ يُطْربني، ولطعم القهوة المسائيّة مذاقٌ سحريٌّ يذكِّرني بقبلات حبيبتي نيروز وبقولها الدائم لي:

"لا تلتفتْ،

كي لا تضيعَ من يدي

غُصْ في كياني مثلما

يسري الهيامُ في دمي

قل لي كلامًا ناعمًا،

قبّل جبيني الحالمَ،

والثمْ فمي..."

كانت نيروز، كلّما أحسّت بالغيرة عليّ، يحمرّ وجهُها، وتردِّد هذا المقطعَ الشِّعريَّ من تأليفها. كنتُ إذا مشيْتُ معها، أتجنّبُ الالتفاتَ؛ فإذا ما استدرتُ عن حسن نيّة، سمعتُ اللازمةَ الشعريّة نفسَها. لم تكن غيرتُها تزعجُني. لم يكن كلامُها يقلقُني. حفظتُ أشعارَها عن ظهر قلب. تعلّمتُ منها إعدادَ القهوة التركيّة وتقديمَها بالرّغوة. عشقتُ أحلامها. حلمتُ بنجاحها في مهنة المحاماة. نيروز كانت مهرجانًا في شراييني. يداها بلسمُ جراحي: دافئتان مثل عشيقيْن ملتحميْن تحت الرياح. عيناها موجتان من فرح اكتسحتا كياني. شفتاها انتفاضةُ البركان.

اخترقتْ سمعي كلماتُ قارئة الفنجان: "لكنّ سماءكَ ممطرةٌ وطريقكَ مسدودٌ مسدود..." الساعة منتصف الليل. لا رغبةَ لي في النوم. تناولتُ محفظةَ أوراقي، وتمدّدتُ على الفراش. صورة قديمة لنيروز مازلتُ أحتفظ بها. أخذتُ أتطلّعُ إلى ملامحَ محفورةٍ في ذاكرتي. أينَ أنتِ يا نيروز؟ أين أنتِ يا معذّبتي؟

***

لا أدري كيف باغتني النوم. استيقظتُ عند السادسة صباحًا. كانت الغرفةُ مضاءة. صورةُ نيروز في يدي، وصوتُ عبد الحليم في أذني. أخذتُ حمّامًا دافئًا. ارتديتُ ما وجدتُه معلّقًا أمامي من ملابس، وقصدتُ مقرَّ الصحيفة.

السماء ممطرة، والطريق ملتوية. أفكاري مشوّشة، وأوراقي على مكتبي مبعثرة. كنتُ أحبّ أن أصنع قهوتي في العمل بنفسي. أشعلتُ أوّلَ سيجارة، ورحتُ أخزّن في صدري ذكرياتٍ كالدخان. يقطع مناسكي صوتُ رؤوف وهو يقتحم مكتبي حاملًا موادَّ المُلحق الثقافيّ لأطّلع عليها.

- سي فتحي، صباح التفاني.

- صباح الخير. اجلسْ يا رؤوف. ما وراءك؟

- حوار مع صاحب جائزة كومار للرواية. مقالان: "أدب السجون في تونس،" و"التأثير اليهوديّ في الموسيقى التونسيّة." تقديم لكتابيْن جديديْن. مجموعة من القصائد لشعراءَ شبّان.

- طيّب يا رؤوف، مُرّ عليّ بعد العاشرة.

كان أكثرَ ما يشدُّني في هذا المُلحق، حين كنتُ مشْرفًا عليه، شعرُ الهواة. كنتُ أحسُّه في الغالب وجدانيًّا صادقًا. في هذا المُلحق، منذ سنوات، نشرتُ المحاولاتِ الشعريّةَ الأولى لحبيبتي نيروز حين كانت تدرسُ القانونَ في الجامعة.

- لا أصدّقُ أنّكَ فعلتَها يا فتحي، قالتها مصدومةً.

- بلى فعلتُها، وها هي الجريدة أمامك. لكنْ، في المقابل، ستعلّمينني صنعَ القهوة مثل التي تُعدّينها لي.

تتناول الجريدةَ بلهفة، وشياطينُ الفرح تتطاير من عينيها. تفتح الملحقَ الثقافيّ، فتستقبلها قصيدةٌ بعنوان 'لا تلتفتْ." تقفز من مقعدها كالمجنونة، وتَطْبع على فمي قبلةً من نار، غيرَ مباليةٍ بالجالسين من حولنا في المقهى.

- منذ اللحظة، ستنادينني الشاعرة نيروز.

- (مقهقهًا) منذ اللحظة لن تقولي لي ’هذا نصّي‘؛ فهو لم يعد ملكَكِ. ولا تماطليني في أمر القهوة، أستاذتي المحامية.

- غدًا مساءً، مُرَّ عليّ؛ فصاحبتي غير موجودة في البيت. ولا تضربْ على الباب كآخر مرّة كي لا ينتبهَ مالكُ الدار.

لا أدري لماذا في كلّ مرّة يأتيني فيها رؤوف بقصائد الهواة ينتابني إحساسٌ غريب. بدأتُ في قراءة أسماء الشعراء بسرعة، وفنجانُ القهوة يرتعش بين أصابعي. كان يُخيّل إليّ أنْ ألمحَ اسمَ نيروز. أين أنتِ يا نيروز؟ أين أنتِ يا معذّبتي؟

***

بعد انتهاء ساعات الدّوام، مررتُ إلى حانة أريزونا لملاقاة صديقٍ قديمٍ لم أره منذ سنتيْن تقريبًا. وجدتُه قد تغيّر كثيرًا. رآني داخلًا الحانةَ، ففتح لي ذراعيْه كمن يطلبُ النّجدة. أمطرني قُبَلًا طويلةً، وبقي يتفحّصني مدّةً بعينيه الغائرتيْن. وبدعابته المعتادة صاح:

- أبا الفتوح، لقد هرمتَ يا رجل! الكأس تناديك يا حبيب الروح.

- (ضاحكًا) هاتِها يا هشامُ مشتاقة تسعى إلى مشتاقِ.

لمّا قضيتُ من النبيذ وطرًا، خطر لي أنْ أسألَ صاحبي عن مستجدّات خصومته الطويلة مع أبناء عمّه حول ميراثٍ قديم. تنهّد الرجل لحظةً ثمّ أردف:

- لم أكن يومًا أتخيّل أنّ أرضَ أبي ستعود إلينا. لكنْ بفضل كفاءة محاميةٍ شابّة، تمكّنّا من كسب القضيّة.

- تفعل النساءُ ما لا يفعله الرجالُ.

نطقتُ جملتي سادرًا، ثمّ انتبهتُ إلى قوله "محامية شابّة." ابتلعتُ ريقي في عُسر. أحسستُ بارتجافةٍ في عروق قلبي.

- ما اسمُ هذه المحامية؟ طرحتُ سؤالي ملهوفًا.

كمن يحاول استحضارَ شيطان من الشياطين، بقيتْ عينا هشام شاخصتيْن في السقف، وشفتاه تتمتمان بأسماء متشابهة: رانيا، نرمين، نارويز،...

ضربتُ الطاولةَ بكفّي ضربةً اهتزّت لها القواريرُ البلوريّةُ الخضراء.

- نيروز. هي نيروز بركات.

أدخل يدَه في جيب سترته. أخرج محفظتَه. سحب أوراقًا كثيرة. بدأ يقلّبها بعينين مضبّبتيْن، ثمّ أمدّني ببطاقةٍ كُتب عليها اسمُ المحامي، صاحبِ المكتب، ورقمُ هاتفه.

- منذ متى ربحتَ القضيّة؟

- منذ أقلّ من سنة. أتحقيقٌ صحفيّ هذا أمْ ماذا؟ أعرفكم معشرَ الصّحفيين...

أنهى كلامَه، ثمّ أخذ يملأ كأسًا جديدةً من البيرة سحبتُها من أمامه بعنف.

- ألم تكلّمْها على هذا الرّقم؟

عيناه مثبّتتان في الكأس المفتكّة منه، قال: أكلّم مَن؟

يتطاير الزبدُ من فمي كرغوة النبيذ:

- ركّزْ معي يا هشام. كيف اتّصلتَ بالمحامية؟

- ألديكَ قضيّة؟ هي مُحامية شاطرة أنصحكَ بها.

- أجبْني يا هشام عن سؤالي. وشربُكَ الليلةَ مدفوعٌ ثمنُه.

استقام هشام في جلسته وبدا وجهُه أكثر جدّيّةً.

- الرقم الذي أمامك رقم هاتف المكتب الذي يُشْرف عليه الأستاذ الصافي عبد الباقي. قصدتُ المكتب، فاستقبلتني المحامية نيروز. تسلّمتْ منّي ملفَّ القضيّة، وتكفّلتْ بدراسته، وحظيتْ بفرصة المرافعة في المحكمة، ولعلّها مرافعتها الثانية أو الثالثة في مسيرتها المهنيّة. وكانت مرافعةً ناجحة، أرجعت الحقَّ إلى أصحابه. وإذا كنتَ تُريد معرفةَ مقرّ المكتب، فسآخذُك إليه حالًا، بعد أن تُحاسبَ صاحبَ الحانة طبعًا.

لا أذكر كيف غادرنا المكان، ولكنّي أذكر بوضوح كيف وجدتُني أمام بناية عملاقة وصاحبي يصيح في أذني: "المكتب في الطابق الثالث يا فتحي."

كانت رائحةُ النبيذ تنبعث من فمي كالسعادة من قلبي. وكان ذهني مشتَّتًا. تردّدتُ في اتخاذ قراري. أأصعدُ الآن إلى المكتب، أمْ أؤجّل ذلك إلى صبيحة الغد؟ ولا أدري أيّ جنون دفعني إلى اتّخاذ القرار الأوّل. شكرتُ صاحبي ووعدتُه بمقابلةٍ آخر الأسبوع، واستأذنتُه متّجهًا نحو باب العمارة. أنا متلهّف لكلّ شيء فيكِ يا نيروز!

امتطيتُ المصعد، وكلّي يقين بأنّي إذا رأيتها ستجتاحني أنوثتُها السّاحرة وتقتلعُني من جذوري. برنينِ جرس المصعد وانفتاحِ بابه، أحسستُ بقدميّ قد التصقتا بالأرض، وشعرتُ بانشقاق صدري، وتفجّر قلبي شظايا.

ولجتُ المكتبَ وجلًا. كان هناك ثلاثة محامين. كلٌّ منهمكٌ في تصفّح أوراقه. رفع أحدُهم رأسَه، فبانَ وجهٌ ملامحُه متوتّرة: جبهة متشنّجة، تحرثها بالعرض أخاديدُ؛ دوائر سوداءُ حول عينيه؛ جفونٌ مرتجفة؛ أنفٌ حادٌّ يوحي ببركان من الغضب؛ وذقن بارزة مشدودة نحو الأعلى.

التفت إلى زميليْه كأنّما يشير إليهما بشيء، ثمّ ظلّوا ينظرون إليّ بأنوفهم حتّى خُيّل لعينيّ أنّ دخانًا يتسرّب من مناخيرهم. طرحتُ كلامي على مسامعهم دفعةً واحدةً، كما يُطرحُ كيسُ الدقيق في الشاحنة:

- أتيتُ أسألُ عن المحامية نيروز بركات.

كانت رائحةُ البيرة تفوح من فمي. كانت ربطةُ عنقي تبدو سكرانة. قام الشابُ ذو الأنف الحادّ من كرسيّه. وبنبرةِ شاعرٍ يتلذّذ عنوانَ قصيدة، قال لي:

- سكران يسأل عن محامية!

تمالكتُ أعصابي وقلتُ في لهجة الواثق بنفسه:

- احترمْ نفسَكَ أيّها المتربّص؛ فأنتَ في حضرة مدير تحرير أشهر صحيفةٍ في البلد.

خُيّل إليّ أنّ أنف الرّجل المحمرّ على وشك الانفجار. وفي ثوانٍ، ثار المحامي كالبركان في وجهي.

- إنْ لم تخرج الآن، سأستدعي لك الشرطة.

لم أعرْه اهتمامًا، والتفتّ إلى زميليْه متوسّلًا:

- بالله عليكما، أجيباني عن سؤالي، وسأخرج حالًا.

قال أحدهما:

- أيّها المُحترم، إنّ السيّدة نيروز تركتْ هذا المكتب بعد إكمال مدّة التمرين، وفتحتْ بمعيّة زوجها مكتبًا خاصًّا بهما.

- زوجها! هل تزوّجتْ نيروز؟

في نوع من الشماتة تدخّل المحامي ذو الأنف الحادّ، وهو يمضغ علكةً بطريقة مستفزّة:

- نعم أيّها المدير السكران. لقد تزوّجتْ من زميل لنا منذ سنة ونصف. وما شأنُكَ أنتَ؟

غلَت الدماءُ في رأسي، واسودّت الدنيا في نظري. ولم أشعر إلّا والكأسُ البلوريّةُ التي على المكتب في يمنايَ. صرخ المحامي، وهبّ زميلاه لنجدته، لكنّ الكأس سبقتْ، فتهشّمتْ على جبينه، واخترقتْ شظيّةٌ زجاجَ عينه. رأيتُ سائلًا أحمرَ يتدفّقُ على خدّ الرّجل، قبل أن يهويَ على الأرض دائخًا ويرتميَ عليه صاحباه.

كنتُ في نوبة جنون. لم أعرفْ كيف أطلقتُ ساقيَّ للريح، ووجدتُني في بيتي. بقيتُ واجمًا في فراشي أحاول استحضارَ ما صار. أردتُ مرارًا أنْ يكون ما رأيتُ كابوسًا لعينًا، لكنّ آثارَ الدم على أصابعي المرتجفة كانت تقول عكسَ ذلك. أحسستُ بنفسي أغرق في دوّامةٍ من الدماء، ثمّ شعرتُ باختناق فظيع وجفاف في بلعومي. لم أستطع فتحَ النافذة. لم أستطع الحراكَ من مكاني. لقد قدّمتُ للمحامين هويّتي بصفتي مدير تحرير أشهر جريدة في البلد. سأصبح متّهَمًا مطلوبًا للعدالة. سيرفعون عليّ دعوى قضائيّة. سيجرجرونني إلى المحاكم. كان يتهيّأ لي في كلّ لحظة صوتُ دقٍّ عنيف على الباب. الشرطة ستداهمني. سأحتمي بأحد الأصحاب. بل ينبغي عليّ أنْ أعترفَ بفعلتي في أقرب مركز للأمن. أنا لم أقصدْ إيذاءَ المحامي. كانت لحظة انفعال في حالة سكْر. ستكتب عنّي كلُّ الجرائد المنافسة. سأُفصلُ عن عملي. ستُداس كرامتي. سيُزجّ بي في السّجن بتهمة الاعتداء على محامٍ أثناء أداء عمله. فكّرتُ مليًّا. عندي من الوعي والشجاعة ما يكفي لأقدّم نفسي إلى العدالة.

كانت الساعةُ العاشرةَ ليلًا، والإضاءةُ خافتةً داخل مركز الشرطة. رويْتُ الحادثةَ بأمانة الصحفيّ النزيه. وفي مركزٍ آخر، كان المتضرّرُ ذو الأنف الحاد يُقدّم شكوى ضدّي، مصحوبًا بزميليْه شاهديْن على الحادثة، وحاملًا تقريرًا طبّيًّا من المشفى الذي أُسعف فيه يُثبت الاعتداءَ عليه وحجمَ الضرر الحاصل له.

وهكذا جرى الاحتفاظُ بي في ليلةٍ بكى فيها القمرُ في انتظار إحالتي على النيابة العموميّة وقاضي التحقيق.

لم يصبر خبرُ إيقافي يومًا واحدًا حتّى كان منشورًا في أكثر من جريدة. أعرف المشرفين على صفحات القضاء: همُّهم الوحيدُ الفضائحُ والإثارةُ!

***

فنجان قهوة على الطاولة. فقاقيعُ متلاصقة تتدافع في هدوء. خطوط من البخار تتصاعد على مهل. أصابعُ رقيقة سمراءُ تُمسكُ بطرفيْ جريدة. شهقة تملأ الصالون. غصّة في الحلق. دموع حارقة تهمو على الخدّيْن. ماذا فعلتَ يا فتحي؟ لقد فتحتَ في قلبي الآن جرحًا خلتُهُ اندمل. لشدّ ما انتظرتُك بحرقة العشق. ماذا فعلتَ أيّها المجنون؟

يُخفض زوجُها أيمن صوتَ التلفاز، ويلتفتُ إليها.

- نيروز، عزيزتي ما بكِ؟

تتفاجأ بزوجها يفتكّ الجريدةَ من بين يديها:

- أين كنتِ تائهةً كلَّ هذا الوقت؟ أناديكِ فلا تجيبين؟

بصوت متقطّع قالت:

- زميلنا قاسم، الذي اشتغل معنا عند سي الصافي، تعرّض إلى اعتداءٍ في مكتبه.

مباشرة رمى أيمن عينيْه في صفحة "أصداء المحاكم" باحثًا عن المقال.

- نحن في زمن السرطان يا عزيزتي.

كان كلّما قرأ كلمتين رفع رأسَه وقال جملتَه هذه. متأفّفةً، نظرتْ نيروز إليه وقالت:

- قتلتَني بجملةٍ لستَ صاحبَها.

أغلق الجريدة، ورماها بعنف على الطاولة.

- هلّا قلتِ لي ما الذي وتّركِ بهذه الطريقة؟ هل هو التأثّر على قاسم؟ وما شأنُنا بقاسم؟ ألا لسان له يدافع به عن نفسه؟

- أيمن، غادرْ دماغي هذه الليلة، قالت بعصبيّة.

حملَتْ قهوتَها، واتجهتْ نحو المطبخ.

صارخًا كما لو كان في مرافعة:

- أرى أنّي غادرتُ قلبَكِ كذلك يا نيروز.

يأتيه صوتُها ملعلعًا من المطبخ:

- سأتطوّع للدفاع عن الصحفيّ.

- أتريدين تأليبَ نقابة المحامين علينا؟ ألا توجد هيئة وطنيّة لتعيين المتطوّعين؟ وما أدراكِ لعلّ هذا الصحفيّ كلّف محاميًا نحريرًا للترافع عنه؟

- لقاسم لسانٌ يُدافع به عن نفسه. أمّا هذا الصحفيّ، فسأدافع عنه بلساني أنا!

***

- فتحي الغفاري، تعالَ معي لتقابل لسان الدّفاع.

- لكنّي لم أعيّنْ أحدًا بعدُ!

- اتبعْني واصمُتْ.

فُتح البابُ. دخلتُ مكتبًا صغيرًا. امرأة أنيقة يليق بها اللونُ الأسود مستديرة إلى الحائط. عيناي مرهقتان لعدم تمكّني من النوم. ملامحي شاحبة كنصف ليمونةٍ معصورة. كلُّ أحزان الكون استقرّت في وجهي. ببطءٍ، استدارت المحامية. وجب قلبي، وتفتّحتْ عينايَ، ويبُس حلقي فلم أقدرْ على الكلام. الشعرُ شعرُها، الوجهُ وجهُها، الثغرُ ثغرُها، الأنفُ أنفُها. لم أتمالكْ نفسي فبكيتُ؛ أنا الذي لم أبكِ منذ وفاة أمّي. اقتربتْ منّي وعيناها مغرورقتان بالدّمع.

- فتحي! ما الذي فعلتَه؟

أناملها تلامس ذقني بلين. تتوغّل في خدّي كما كانت تفعل في الماضي. مقلتاها تنظران إليّ في حنان.

- اجلسْ يا فتحي، وحدّثْني بالتفصيل عن أطوار الحادثة.

قصصتُ عليها ما صار لي بكلّ دقّة. كانت كلُّ كلمة أتفوّه بها متبوعةً بدمعةٍ على خدّها.

حين أكملتُ حديثي، ساد المكتبَ صمتٌ غريبٌ. حدّقتْ نيروز في وجهي الشاحب الحزين. وتحرّكتْ شفتاها ببطء.

- لولا مجونُكَ يا فتحي، لما رفضَكَ أبي. كم مرّةً نصحتُكَ بالإقلاع عن النبيذ؟ كنتُ أعلمُ صفاءَ قلبكَ وصدقَ حبّك. أشواقي كانت عطشى إلى كلّ شيءٍ فيك. كنتُ أذكرُ كلَّ ليلة كيف كنتَ تأتيني في غياب صاحبتي لتتناول معي قهوةً، وتترشّف منّي قبلةً، وتسرق منّي لمسةً، ثمّ تُجالسني على سريري تُعانقني، تغازلني، تشمّ عطري، تضيعُ في عينيّ، ثمّ تنامُ على صدري لألاعب شعرَك. لكلّ إنشٍ في جسدي مررتَ عليه ذاكرةٌ لا تُمحى. سأحاول إقناعَ قاسم بإسقاط الدّعوى قبل أن يحوّلوكَ إلى قاضي التّحقيق؛ فقد علمتُ من زملائي القدامى أنّ إصابتَه ليست خطيرةً، وأنّ عينه سلمتْ بأعجوبة.

بعد يوميْن، كنتُ في مكافحةٍ قانونيّةٍ أمام قاضي التحقيق. لقد أخفقتْ نيروز في استمالة زميلها، إذًا. إنّه مصرّ على تتبّعي قضائيًّا. وهكذا أحيل ملفّ القضيّة على المحكمة الابتدائيّة.

***

كانت القاعة مليئةً بالصحفيين والمحامين. جميع زملائي في الجريدة كانوا موجودين. هشام أيضًا كان حاضرًا. قاسم، المحامي المتضرّر، سيرافع عن نفسه.

يضرب القاضي بمطرقته الخشبيّة على طاولته ضرباتٍ متتابعةً تُعلن عن بدء المرافعة. يعمّ الصمتُ المكان.

كنتُ مكبّلَ اليدين، جالسًا على كرسيّ خلف القضبان، أبحثُ عن نيروز. بدأ القاضي في تقديم الحادثة. تكلّم المتضرِّر، وتكلّم الشاهدان. وقفتْ نيروز لترافع:

- عرفتُ شخصًا منذ سبع سنوات. كنتُ في سنتي الجامعيّة الثانية. وكان مسؤولًا عن مُلحقٍ ثقافيّ بجريدة. آمن بي وشجّعني، ففتح لي بابَ النَّشر في الجريدة. تطوّرتْ علاقتنا. وحين أوشكتُ على نيل شهادة المحاماة، تقدّم لخطبتي، فرفضه والدي بحجّة شرب النبيذ. خُيّرتُ بين طاعة أبي وطاعةِ قلبي، فغادرتُ حياةَ هذا الرّجل نهائيًّا، وبدأتُ مسيرتي المهنيّة في مكتب أستاذ كبير، حيثُ تعرّفتُ إلى زميلٍ تقدّم لي، فرحّبتْ به أسرتي المحافظة لاستقامته. وهكذا فشلتُ في أن أكون عادلة.

وتابعتْ:

- سيّدي الرئيس، حضرات السادة القضاة، لا عدلَ بغير حقّ. باسم الحقّ الذي تعملون على تحقيقه وحمايته، الحقَّ الحقَّ أقولُ لكم. ثمّة خساراتٌ كبيرة إلى حدٍّ لا خسارةَ بعدها تستحقّ الحزنَ. إذا كنتُ سأخسر حياتي الزوجيّة مقابل أن يربح المتّهمُ براءتَه، فسأكون قد ضحّيتُ من أجل العدالة. الشخصُ الذي أحببتهُ، سيّدي الرئيس، حضرات السادة القضاة، ومازلتُ أحبُّه، هو الشخصُ القابعُ خلف القضبان ينتظر حكمَكم العادل. ذهب ليبحث عنّي بعد أن هجرتُه. ذهب بقلبه، وإنْ غاب عقلُه باحثًا عن امرأةٍ تركتهُ ولا تستحقُّه، فحصل ما كُتب في الملفّ أمامكم. سيّدي الرئيس، لو نظرنا إلى الحادثة من هذه الزاوية، بعيدًا عن الفصول القانونيّة، فسنجدُ أنّ المتّهمَ الأساسَ في هذه القضيّة هو أنا!

وسط حالة من الذهول والدهشة في القاعة، وقف المحامي المتضرّر من كرسيّه، وأخذ في التّصفيق بحرارة. ثمّ تلاه كلُّ الحاضرين في الهُتاف والتّصفيق. دقّ القاضي بمطرقته على الطاولة داعيًا إلى التزام الهدوء، ومحيلًا الكلمةَ على قاسم. نظر المحامي ذو الأنف الحادّ إليّ نظرةَ طمأنةٍ، ثمّ تقدّم نحو طاولة القضاة وقال بصوتٍ هادئ:

- سيّدي الرئيس، حضرات السادة القضاة، علّمتنا اليوم زميلتي درسًا في الجرأة والصدق والاعتراف بالذنب والتّضحية في سبيل الحبّ. وبعد المرافعة المؤثّرة التي استمعنا إليها جميعًا، وقبل صدور حكمكم النهائيّ؛ ولمّا كان القانونُ يَكفل للمتضرّر سحبَ الشكوى في أيّ مرحلة من مراحل الدّعوى؛ ولمّا كانت الحادثة عن حُسن نيّةٍ ومن دون قصد الاعتداء؛ فإنني أعلنُ أمامكم ــ وبمحض إرادتي ــ الصفحَ عن السيّد المحترم فتحي الغفاري. سيّدي القاضي، أنهيتُ مرافعتي، وكلّي ثقةٌ في عدلكم وفي القضاءِ للصحفيّ بالبراءة.

لم أصدّقْ ما سمعتُ. لم أتخيّل أنّ القاضي سمع ما قيل إلّا حين طرق منهيًا المرافعة ومعلنًا براءتي.

***

يوضع طبقُ القهوة على الطاولة في غرفة النوم. فنجانان تنبعث منهما رائحةٌ حميمة تتشرّب نجومَ الليل المطلّة على شرفتنا. رائحةُ البنّ تزيل ما علق بالذاكرة من تعب.

- هل أعجبكِ طعمُها يا حبيبتي؟

ترشّفَتْ قليلًا، رفعتْ رأسها نحوي مبتسمة، وقالت:

- كم أودّ أن أذوب فيك يا فتحي مثلَ السكّر في الفنجان. لقد صارت قهوتُكَ تفوق لذّةَ قهوتي.

لا تلتفت،

كي لا تضيع من يدي

غُصْ في كياني مثلما

يسري الهيامُ في دمي.

تونس

سيف الدين بنزيد

 باحث تونسيّ متخصّص في مجال الأدب العربيّ الحديث. نال الأستاذيّة في اللغة والآداب العربيّة من المعهد العالي للغات بتونس، وكانت رسالته بعنوان "الغربة والفخر في أشعار الشنفرى وعُروة بن الورد." واصل المرحلة الثالثة من التعليم العالي بكليّة العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة بتونس، وتحصّل على شهادة الماجستير في اللغة والأدب والحضارة العربيّة، وكان عنوان أطروحته: "التناصّ مع الكتاب المقدّس في مجموعتيْ البئر المهجورة وقصائد في الأربعين ليوسف الخال." نال الدكتوراه وكانت أطروحته بعنوان: "التوظيف الرّمزيّ في الشعر السياسيّ المصريّ الحديث." درّس بالمعهد العالي للغات بتونس، وبالمعهد العالي للعلوم الإنسانيّة بتونس.